صورة من Pexels — المصدر
الاقتصاد السلوكي: فهم الإنسان لصناعة سياسات أفضل
لطالما اعتمد الاقتصاد التقليدي على افتراض أن الإنسان كائن عقلاني يتخذ قراراته بناءً على معلومات كاملة، ويسعى دائمًا لتحقيق أقصى منفعة شخصية. هذا الافتراض، رغم بساطته، شكل حجر الزاوية في صياغة العديد من النظريات الاقتصادية والسياسات العامة لعقود طويلة. لكن الحياة الواقعية غالبًا ما تظهر أن البشر ليسوا دائمًا "آلات منطقية". نحن نقع فريسة للعواطف، التحيزات، والظروف المحيطة التي تؤثر بشكل كبير على خياراتنا، سواء كانت مالية، صحية، أو حتى بيئية. من هنا، برز حقل جديد ومثير للاهتمام يجمع بين علم النفس والاقتصاد ليقدم فهمًا أعمق لسلوكنا البشري: إنه "الاقتصاد السلوكي".
يهدف الاقتصاد السلوكي إلى دمج الرؤى النفسية في التحليل الاقتصادي، لتقديم صورة أكثر واقعية عن كيفية اتخاذ الناس للقرارات. هذا الفهم المتجدد ليس مجرد إضافة أكاديمية، بل هو أداة قوية يمكن أن تحدث ثورة في كيفية تصميم الحكومات والمنظمات لسياساتها، لجعلها أكثر فعالية وأكثر استجابة للطبيعة البشرية. فبدلاً من محاولة تغيير الناس ليتناسبوا مع السياسات، يسعى الاقتصاد السلوكي لتصميم السياسات لتتناسب مع طبيعة الناس.
ما هو الاقتصاد السلوكي؟
الاقتصاد السلوكي هو فرع من فروع الاقتصاد يدرس تأثير العوامل النفسية والاجتماعية والعاطفية والمعرفية على اتخاذ القرارات الاقتصادية للأفراد والمؤسسات، وكيف يمكن لهذه العوامل أن تؤدي إلى انحرافات عن السلوك العقلاني الذي يفترضه الاقتصاد التقليدي. على عكس النموذج الاقتصادي الكلاسيكي الذي يرى الإنسان "عاقلاً اقتصاديًا" (Homo Economicus) يتخذ قرارات منطقية ومحسوبة لتعظيم منفعته، يرى الاقتصاد السلوكي أن الإنسان "عاقل محدود" (Bounded Rationality)، يتأثر بالعديد من التحيزات والحدود المعرفية التي تجعله يرتكب أخطاء منهجية.
يعود الفضل في تأسيس هذا المجال إلى أعمال الرواد أمثال دانيال كانيمان وعاموس تفيرسكي، الحائزين على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002 (كانيمان)، واللذين كشفا عن العديد من التحيزات المعرفية التي تؤثر على حكمنا. لاحقًا، ساهم ريتشارد ثالر، الحائز على جائزة نوبل عام 2017، بشكل كبير في تطبيق هذه الأفكار في مجال السياسات العامة من خلال مفهوم "الدفعات اللطيفة" أو "الوخزات" (Nudges).
التحيزات المعرفية الأساسية وتأثيرها
لفهم كيف يمكن للاقتصاد السلوكي أن يؤثر على السياسات، يجب أولاً استعراض بعض التحيزات المعرفية الشائعة التي تؤثر على قراراتنا:
-
النفور من الخسارة (Loss Aversion): يميل الناس إلى الشعور بألم الخسارة بشكل أقوى بكثير من متعة الكسب المماثل. على سبيل المثال، قد يكون فقدان 100 دولار أكثر إيلامًا من متعة كسب 100 دولار. هذا التحيز يجعل الناس أكثر حذرًا ومقاومة للتغيير الذي قد ينطوي على مخاطر، حتى لو كانت العوائد المحتملة كبيرة.
-
التأطير (Framing Effect): تتأثر قراراتنا بكيفية عرض المعلومات أو "تأطيرها". فمثلاً، قد يكون المنتج الذي يُعلن عنه على أنه "خالٍ من الدهون بنسبة 90%" أكثر جاذبية من منتج آخر يُعلن عنه على أنه "يحتوي على 10% دهون"، على الرغم من أن المعلومتين متطابقتان. يؤثر التأطير على كيفية إدراكنا للمخاطر والفرص.
-
القصور الذاتي/الوضع الراهن (Status Quo Bias/Inertia): يميل الناس إلى تفضيل البقاء على الوضع الراهن وتجنب التغيير، حتى لو كان التغيير سيعود عليهم بفائدة أكبر. هذا التحيز يفسر لماذا يلتزم الكثيرون بخياراتهم الافتراضية، مثل عدم تغيير مزود الطاقة أو خطة التأمين، حتى لو كانت هناك بدائل أفضل.
-
التثبيت (Anchoring Bias): يميل الناس إلى الاعتماد بشكل مفرط على المعلومة الأولى التي يتلقونها (المرساة) عند اتخاذ القرارات اللاحقة. على سبيل المثال، إذا كان السعر الأولي المعروض لمنتج ما مرتفعًا، فقد يبدو أي سعر لاحق أقل منه وكأنه صفقة جيدة، حتى لو كان لا يزال مرتفعًا.
-
التحيز التأكيدي (Confirmation Bias): يميل الأفراد إلى البحث عن المعلومات وتفسيرها وتذكرها بطريقة تؤكد معتقداتهم أو فرضياتهم المسبقة، وتجاهل المعلومات التي تتعارض معها. هذا التحيز يمكن أن يقود إلى اتخاذ قرارات غير موضوعية ويعزز الاستقطاب.
-
التوفر (Availability Heuristic): نميل إلى تقدير احتمالية حدوث حدث ما بناءً على سهولة تذكر أمثلة له. فمثلاً، قد يبالغ الناس في تقدير مخاطر حوادث الطائرات بعد مشاهدة تقارير إخبارية عنها، على الرغم من أن حوادث السيارات أكثر شيوعًا بكثير.
الاقتصاد السلوكي في خدمة السياسات العامة
إن فهم هذه التحيزات المعرفية يفتح الباب أمام نهج جديد لصناعة السياسات، يعتمد على ما يسمى بـ "الدفعات اللطيفة" (Nudges). الدفعة اللطيفة هي أي تدخل يغير سلوك الناس بطريقة متوقعة دون حظر أي خيارات أو تغيير الحوافز الاقتصادية بشكل كبير. إنها "وخزة" صغيرة توجه الناس نحو خيارات أفضل، مع الحفاظ على حريتهم في الاختيار.
بدأت الحكومات حول العالم، بما في ذلك المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا وألمانيا، بإنشاء "وحدات الدفع السلوكي" (Nudge Units) أو فرق الرؤى السلوكية (Behavioral Insights Teams) لتطبيق مبادئ الاقتصاد السلوكي في تصميم السياسات. هذه الوحدات تعمل على فهم السلوك البشري في سياقات معينة، ثم تصميم تدخلات بسيطة وغير مكلفة لتحسين النتائج.
أمثلة عملية لتطبيق الاقتصاد السلوكي في السياسات
تتعدد الأمثلة على كيفية استخدام الاقتصاد السلوكي لتحسين السياسات في مجالات مختلفة:
-
التوفير والتقاعد:
- التسجيل التلقائي (Automatic Enrollment): بدلاً من مطالبة الموظفين بالتسجيل في خطط التقاعد بأنفسهم (التي تتطلب جهدًا وتغلب على القصور الذاتي)، يتم تسجيلهم تلقائيًا مع خيار الانسحاب. أظهرت هذه السياسة زيادة هائلة في معدلات الادخار للتقاعد.
- برنامج "ادخر أكثر غدًا" (Save More Tomorrow): يقترح هذا البرنامج على الموظفين الالتزام بزيادة نسبة مساهمتهم في خطط التقاعد في المستقبل، عادةً مع زيادة الراتب. هذا يستغل النفور من الخسارة (الزيادة من الراتب الحالي) ويجعل الادخار أسهل نفسيًا.
-
الصحة العامة:
- التبرع بالأعضاء: في بعض الدول، يتم اعتماد نظام "الموافقة الافتراضية" (Opt-out) للتبرع بالأعضاء، حيث يعتبر الجميع متبرعين ما لم يرفضوا صراحةً. هذا يزيد بشكل كبير من عدد المتبرعين مقارنة بنظام "الموافقة الصريحة" (Opt-in) الذي يتطلب إجراءً فعليًا للتسجيل.
- التشجيع على الخيارات الصحية: في المقاصف المدرسية أو المطاعم، يمكن وضع الخيارات الصحية في مستوى العين أو في بداية خط التقديم لتشجيع اختيارها. كما يمكن استخدام التأطير الإيجابي في حملات التوعية الصحية.
- التطعيمات: إرسال رسائل تذكير بسيطة وموجهة للأشخاص بمواعيد تطعيماتهم، مع التأكيد على الفوائد الاجتماعية والصحية، يزيد من معدلات الامتثال.
-
الضرائب والامتثال:
- رسائل تذكير ضريبية مصممة سلوكيًا: وجدت بعض الدراسات أن رسائل التذكير الضريبية التي تذكر دافعي الضرائب بأن "معظم الناس في منطقتك يدفعون ضرائبهم في الوقت المحدد" تزيد من معدلات الامتثال، مستغلة الرغبة في التوافق الاجتماعي.
- تبسيط الإجراءات: تقليل التعقيد في نماذج الضرائب أو طلبات المساعدات الحكومية يقلل من "تكلفة الجهد" ويشجع المزيد من الناس على إكمالها.
-
البيئة والطاقة:
- تقارير استهلاك الطاقة: تظهر بعض الشركات تقارير استهلاك الطاقة للمنازل، وتقارنها بمتوسط استهلاك الجيران. هذا يحفز الأفراد على تقليل استهلاكهم للطاقة، مدفوعين بالرغبة في التوافق الاجتماعي أو التفوق.
- الخيارات الافتراضية للطاقة المتجددة: تقديم خيار الطاقة المتجددة كخيار افتراضي (مع إمكانية التغيير) يزيد من تبنيها.
-
التعليم:
- تذكيرات للطلاب: إرسال رسائل نصية أو بريد إلكتروني للطلاب لتذكيرهم بالمواعيد النهائية لتقديم طلبات المساعدة المالية أو التسجيل في الدورات، يقلل من معدلات التسرب ويزيد من الالتحاق.
التحديات والانتقادات
على الرغم من النجاحات الواضحة، يواجه الاقتصاد السلوكي وتطبيقاته في السياسات بعض التحديات والانتقادات:
-
الجانب الأخلاقي (Ethical Concerns): يثير البعض تساؤلات حول أخلاقيات "الدفعات اللطيفة". هل تعتبر هذه الوخزات تلاعبًا؟ هل تقلل من حرية الاختيار الفردي أو تستغل نقاط ضعف الناس؟ يجب على صانعي السياسات أن يوازنوا بين فعالية الدفعة اللطيفة واحترام الاستقلالية الفردية، والتأكد من أن التدخلات شفافة وموجهة نحو تحقيق مصلحة الأفراد والمجتمع.
-
فعالية الدفعات (Effectiveness of Nudges): قد لا تكون الدفعات اللطيفة كافية لمعالجة المشاكل الاجتماعية الكبيرة والمعقدة، مثل الفقر المدقع أو الأزمات الاقتصادية الهيكلية. كما أن تأثيرها قد يكون قصير الأجل أو لا يعمل بنفس الفعالية في جميع السياقات أو على جميع المجموعات السكانية.
-
التطبيق العملي (Practical Implementation): يتطلب تصميم دفعات لطيفة فعالة فهمًا عميقًا للسلوك البشري في سياق معين، ويتطلب تجريبًا دقيقًا وتقييمًا مستمرًا. قد يكون من الصعب تطبيق هذه المنهجية في بيئات بيروقراطية أو ذات موارد محدودة.
-
المبالغة في التبسيط (Oversimplification): قد يرى البعض أن الاقتصاد السلوكي يميل إلى تبسيط السلوك البشري المعقد إلى مجموعة من التحيزات، متجاهلاً الأبعاد الاجتماعية والثقافية والاقتصادية الأوسع التي تشكل القرارات.
المستقبل: نحو سياسات أكثر ذكاءً وإنسانية
رغم هذه التحديات، لا يزال الاقتصاد السلوكي يمثل قوة دافعة في تطوير
0 تعليقات