الإعلام الرقمي: محرك الرأي العام في العصر الحديث

إعلان
الإعلام الرقمي: محرك الرأي العام في العصر الحديث

صورة من Pexels — المصدر


الإعلام الرقمي: محرك الرأي العام في العصر الحديث

في عالم تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتداخل فيه الثقافات، برز "الإعلام الرقمي" كقوة لا يستهان بها، قادرة على إعادة تشكيل مفاهيمنا للعالم، وتوجيه بوصلة الرأي العام في اتجاهات لم تكن متوقعة من قبل. لم يعد الإعلام مجرد وسيلة لنقل الأخبار، بل أصبح فضاءً تفاعلياً يشارك فيه الملايين في صناعة المحتوى، تبادل الأفكار، وتكوين القناعات. هذه المقالة تستكشف كيف يقوم الإعلام الرقمي، بكل تعقيداته وتحدياته، بتشكيل الرأي العام، وكيف أضحى جزءاً لا يتجزأ من نسيج حياتنا اليومية.

ثورة الاتصال الرقمي وتغير المشهد الإعلامي

قبل عقود قليلة، كان المشهد الإعلامي محصوراً في قنوات تقليدية مثل الصحف المطبوعة، الإذاعة، والتلفزيون. كانت هذه الوسائل تتبع نموذجاً "من الأعلى إلى الأسفل" (Top-down)، حيث كانت المعلومات تتدفق من مصدر مركزي إلى جمهور واسع يتلقاها بشكل سلبي في الغالب. لكن مع ظهور الإنترنت وتطور التقنيات الرقمية في أواخر القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة، شهد العالم ثورة اتصالية غيرت هذا النموذج جذرياً.

الإعلام الرقمي، بمفهومه الواسع، يشمل كل أشكال المحتوى الإعلامي الذي يتم إنتاجه وتوزيعه واستهلاكه عبر المنصات الرقمية وشبكات الإنترنت. من مواقع الأخبار الإلكترونية، إلى المدونات، ومنصات التواصل الاجتماعي (فيسبوك، تويتر، إنستغرام، تيك توك)، وصولاً إلى تطبيقات المراسلة الفورية ومنصات بث الفيديو. ما يميز هذه الثورة هو:

  • السرعة الفائقة: تنتقل الأخبار والمعلومات في لمح البصر عبر الحدود الجغرافية.
  • التفاعلية: لم يعد الجمهور مجرد متلقي، بل أصبح مشاركاً وفاعلاً عبر التعليقات والمشاركات وإعادة النشر.
  • الوصولية العالمية: المعلومات متاحة لأي شخص يمتلك اتصالاً بالإنترنت، في أي مكان وزمان.
  • تعدد الأشكال: دمج النصوص، الصور، مقاطع الفيديو، والرسوم البيانية في تجربة إعلامية غنية.
  • المحتوى الذي ينشئه المستخدمون (UGC): الأفراد العاديون أصبحوا مصادر للأخبار والمعلومات، مما يكسر احتكار المؤسسات الإعلامية التقليدية.

هذه الخصائص مجتمعة خلقت بيئة إعلامية جديدة تماماً، بيئة تمكن الأفراد من الوصول إلى كم هائل من المعلومات، وتسمح لهم بالتعبير عن آرائهم ومشاركتها مع الآخرين، مما يمهد الطريق لتشكيل رأي عام أكثر ديناميكية وتنوعاً.

آليات الإعلام الرقمي في تشكيل الرأي العام

يستخدم الإعلام الرقمي مجموعة معقدة من الآليات للتأثير في الأفراد وتشكيل قناعاتهم الجماعية، والتي تتضافر لتكوين الرأي العام:

1. سرعة انتشار المعلومات والأخبار

تعد السرعة ميزة حاسمة للإعلام الرقمي. فبمجرد وقوع حدث ما، يمكن أن تنتشر تفاصيله وصوره ومقاطعه المصورة حول العالم في دقائق معدودة. هذه السرعة تمنح الإعلام الرقمي الأسبقية في سرد الرواية الأولى للحدث، وهو ما يؤثر بشكل كبير على التصورات الأولية للجمهور. على سبيل المثال، خلال الأزمات والكوارث، تكون منصات التواصل الاجتماعي هي المصدر الأول للأخبار العاجلة، مما يمكنها من توجيه النقاش العام حول طبيعة الأزمة وكيفية الاستجابة لها.

2. التفاعلية والمشاركة الجماهيرية

على عكس الإعلام التقليدي، يتيح الإعلام الرقمي للجمهور التفاعل المباشر مع المحتوى ومشاركته. التعليقات، الإعجابات، إعادة التغريد، والمشاركات كلها أدوات تمنح الأفراد شعوراً بالمشاركة في الحوار العام. هذه التفاعلية لا تعزز فقط انتشار المحتوى، بل تخلق أيضاً شعوراً بالانتماء للمجتمع الرقمي الذي يتبنى وجهة نظر معينة. يمكن أن يؤدي هذا التفاعل إلى تضخيم بعض الآراء وجعلها تبدو وكأنها تمثل غالبية الرأي العام، حتى لو لم تكن كذلك بالضرورة.

3. التخصيص والخوارزميات

تعتمد معظم المنصات الرقمية على خوارزميات معقدة لتحليل سلوك المستخدمين وتفضيلاتهم، ثم تقوم بتخصيص المحتوى الذي يظهر لهم. هذا التخصيص يهدف إلى إبقاء المستخدمين منخرطين في المنصة لأطول فترة ممكنة، ولكنه يؤدي أيضاً إلى ظاهرة "فقاعات التصفية" (Filter Bubbles) و"غرف الصدى" (Echo Chambers). فالمستخدم يرى بشكل أساسي المحتوى الذي يتوافق مع آرائه ومعتقداته الحالية، مما يعزز هذه المعتقدات ويحد من تعرضه لوجهات نظر مختلفة، وبالتالي يساهم في الاستقطاب وتصلب الآراء.

4. المؤثرون وصناع المحتوى

ظهرت فئة جديدة من الشخصيات العامة في العصر الرقمي: المؤثرون وصناع المحتوى. هؤلاء الأفراد، بفضل جماهيرهم الواسعة وتفاعلهم المباشر مع متابعيهم، أصبحوا يتمتعون بقدرة هائلة على تشكيل الآراء والاتجاهات. سواء كانوا يناقشون قضايا اجتماعية، يروجون لمنتجات، أو يعبرون عن مواقف سياسية، فإن تأثيرهم يمكن أن يمتد ليشمل قطاعات واسعة من الجمهور، خاصة الشباب. العلاقة شبه الشخصية التي ينسجها المؤثرون مع متابعيهم تزيد من مصداقيتهم وتأثيرهم.

5. الصحافة المواطنة

مع انتشار الهواتف الذكية المزودة بكاميرات عالية الجودة وسهولة الوصول إلى الإنترنت، أصبح أي مواطن شاهداً على حدث ما قادراً على أن يصبح صحفياً. التقارير المباشرة من مواقع الأحداث، الصور ومقاطع الفيديو التي يلتقطها الأفراد، كلها تساهم في تدفق المعلومات وتوثيق الأحداث من زوايا متعددة، مما يثري النقاش العام ويقدم وجهات نظر قد تغيب عن الإعلام التقليدي.

التحديات والمخاطر: الوجه الآخر للإعلام الرقمي

على الرغم من القوة الإيجابية للإعلام الرقمي في تمكين الأفراد وتوسيع نطاق النقاش العام، إلا أنه يحمل في طياته تحديات ومخاطر جمة تؤثر سلباً على جودة الرأي العام:

1. الأخبار الكاذبة والتضليل (Fake News and Misinformation)

سهولة إنشاء المحتوى وانتشاره بسرعة فائقة جعلت من الأخبار الكاذبة والمعلومات المضللة مشكلة خطيرة. يمكن لأي شخص أو جهة نشر معلومات غير دقيقة أو مضللة بقصد أو بدون قصد، وهذه المعلومات قد تنتشر كالنار في الهشيم، مما يؤثر على التصورات العامة، ويثير الذعر، ويشوه الحقائق. القدرة على التمييز بين الحقيقة والزيف أصبحت مهارة أساسية في العصر الرقمي.

2. غرف الصدى والفقاعات التصفوية

كما ذكرنا سابقاً، تؤدي الخوارزميات إلى عزل الأفراد داخل "فقاعات" معلوماتية، حيث يتعرضون فقط للآراء التي تتوافق مع آرائهم. هذا يعزز التحيز التأكيدي ويجعل الأفراد أقل انفتاحاً على وجهات النظر المختلفة، مما يؤدي إلى استقطاب مجتمعي وتصلب في المواقف، ويحد من القدرة على التوصل إلى توافقات أو فهم متبادل.

3. التحيز والخوارزميات

ليست الخوارزميات محايدة بالضرورة؛ فقد تعكس تحيزات مبرمجيها أو البيانات التي تم تدريبها عليها. هذا يمكن أن يؤدي إلى تضخيم بعض الآراء على حساب أخرى، أو استهداف فئات معينة برسائل محددة، مما يؤثر على تشكيل الرأي العام بطرق غير شفافة وقد تكون غير عادلة.

4. انتهاك الخصوصية والبيانات

تجمع منصات الإعلام الرقمي كميات هائلة من البيانات عن مستخدميها. هذه البيانات يمكن استخدامها ليس فقط لتخصيص المحتوى، بل أيضاً للتأثير على سلوكياتهم وتوجهاتهم، سواء لأغراض تجارية أو سياسية. المخاوف بشأن انتهاك الخصوصية وكيفية استخدام هذه البيانات تظل تحدياً كبيراً.

5. التأثير على الصحة النفسية

التعرض المستمر للمحتوى الرقمي، الضغط الاجتماعي للمشاركة والتفاعل، والمقارنات الاجتماعية المستمرة يمكن أن يكون لها تأثيرات سلبية على الصحة النفسية للأفراد، مثل القلق، الاكتئاب، والإدمان الرقمي، مما يؤثر بدوره على قدرتهم على التفكير النقدي وتكوين آراء متوازنة.

أمثلة وشواهد على تأثير الإعلام الرقمي

لقد قدم التاريخ الحديث العديد من الأمثلة التي تبرهن على قوة الإعلام الرقمي في تشكيل الرأي العام وتحريكه:

  • الحركات الاجتماعية والاحتجاجات: لعبت منصات التواصل الاجتماعي دوراً محورياً في تنظيم وتنسيق العديد من الحركات الاحتجاجية حول العالم، مثل الربيع العربي، وحركة "احتلوا وول ستريت" (Occupy Wall Street)، وحركة "حياة السود مهمة" (#BlackLivesMatter). فقد سهلت هذه المنصات تعبئة الجماهير، ونشر رسائل النشطاء، وتوثيق الأحداث في الوقت الفعلي، مما أضفى شرعية على مطالبهم وحشد الدعم لها.

  • الحملات الانتخابية والسياسية: أصبحت الحملات الانتخابية تعتمد بشكل كبير على الإعلام الرقمي. المرشحون يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي للتواصل المباشر مع الناخبين، نشر برامجهم، الرد على الانتقادات، وحتى جمع التبرعات. كما تُستخدم البيانات الضخمة لاستهداف الناخبين برسائل مخصصة، مما يؤثر على قراراتهم الانتخابية. الانتخابات الأمريكية الأخيرة والعديد من الانتخابات في دول مختلفة خير دليل على ذلك.

  • تشكيل الوعي بقضايا معينة: ساهم الإعلام الرقمي بشكل فعال في رفع الوعي بقضايا عالمية مهمة، مثل تغير المناخ (حركة غريتا تونبرغ)، حقوق الإنسان، الصحة العامة (حملات التوعية بمرض السرطان أو الوباء)، والعدالة الاجتماعية. الهاشتاغات والمنشورات الفيروسية يمكن أن تحول قضية محلية إلى قضية رأي عام عالمي في غضون ساعات.

  • التأثير على العلامات التجارية والمستهلكين: يتأثر المستهلكون بشكل كبير بالآراء والتقييمات المنتشرة على الإنترنت. المراجعات الإيجابية والسلبية للمنتجات والخدمات يمكن أن تحدد نجاح أو فشل علامة تجارية. كما أن الحملات التسويقية الفيروسية والمحتوى الذي ينشئه المستخدمون حول المنتجات أصبح جزءاً أساسياً من استراتيجيات التسويق الحديثة.

مستقبل الإعلام الرقمي والرأي العام

إن مستقبل الإعلام الرقمي والرأي العام متشابكان بشكل لا ينفصم. مع التطورات المستمرة في الذكاء الاصطناعي، الواقع الافتراضي والمعزز، والميتافيرس، من المرجح أن يصبح الإعلام الرقمي أكثر انغماساً وتفاعلية وتخصيصاً. هذا يعني أن آليات تشكيل الرأي العام ستصبح أكثر تعقيداً ودقة.

ستزداد الحاجة إلى "الوعي الإعلامي" (Media Literacy) والقدرة على التفكير النقدي بشكل أكبر. يجب على الأفراد أن يكونوا قادرين على تحليل المعلومات، تقييم مصداقية المصادر، وفهم كيفية عمل الخوارزميات والتأثيرات المحتملة للفقاعات التصفوية. كما يجب على المنصات الرقمية والحكومات والمؤسسات الأكاديمية أن تعمل معاً لتطوير أطر أخلاقية وقانونية تضمن استخداماً مسؤولاً للإعلام الرقمي، وتحمي المستخدمين من التضليل والاستغلال.

خاتمة

لا شك أن الإعلام الرقمي قد أحدث تحولاً جذرياً في كيفية تلقينا للأخبار، تواصلنا - UNDP Publications - OECD Library - World Bank Data - Brookings

إرسال تعليق

0 تعليقات