صورة من Unsplash — Andriy Miyusov
الشرع يغادر البيت الأبيض: واشنطن تعلّق عقوبات قيصر وتُعيد رسم ملامح سياستها السورية
في تطور يعكس تحولاً محتملاً في الاستراتيجية الأمريكية تجاه الملف السوري، تجدد واشنطن تعليق بعض بنود "قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين لعام 2019" المتعلقة بالأنشطة الإنسانية وجهود التعافي المبكر. هذا القرار، الذي يأتي في سياق إقليمي ودولي معقد، يثير تساؤلات حول دلالاته الحقيقية، وما إذا كان يمثل مجرد تسهيل مؤقت أم بداية لنهج أكثر براغماتية يبتعد عن سياسة العزلة الشاملة التي طبعت التعامل الأمريكي مع دمشق لسنوات. إن تعبير "الشرع يغادر البيت الأبيض" هو استعارة قوية تشير إلى أن المبادئ الصارمة التي كانت تحكم هذه السياسة، والتي غالباً ما كانت ترى في أي تعامل مع النظام السوري خروجاً عن الشرعية، قد بدأت تتراجع لصالح مقاربة تأخذ في الاعتبار الواقع على الأرض والضرورات الإنسانية، وربما المصالح الجيوسياسية المتغيرة.
قانون قيصر: السياق والأهداف
لفهم دلالات تجديد تعليق عقوبات قيصر، لا بد من استعراض طبيعة هذا القانون وأهدافه. "قانون قيصر لحماية المدنيين السوريين" هو تشريع أمريكي صدر في ديسمبر 2019 ودخل حيز التنفيذ في يونيو 2020. سُمي القانون بهذا الاسم نسبة إلى مصور عسكري سوري انشق عن النظام وحمل معه آلاف الصور المروعة التي وثقت التعذيب والقتل في السجون السورية. يهدف القانون إلى محاسبة نظام بشار الأسد وحلفائه على انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة ضد الشعب السوري، ومنع تطبيع العلاقات معه أو دعمه مالياً.
يفرض قانون قيصر عقوبات اقتصادية واسعة النطاق على الأفراد والكيانات التي تقدم الدعم المادي أو المالي أو التكنولوجي للحكومة السورية، أو التي تتعامل معها في قطاعات معينة مثل البناء والنفط والغاز. كما يستهدف القانون كل من يمول أو يدعم المجهود الحربي للنظام السوري، بما في ذلك روسيا وإيران، بالإضافة إلى الأفراد المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان. كان الهدف المعلن للقانون هو الضغط على النظام السوري للموافقة على حل سياسي للصراع وفقاً لقرار مجلس الأمن رقم 2254، الذي يدعو إلى عملية انتقال سياسي شاملة.
منذ دخوله حيز التنفيذ، أثار قانون قيصر جدلاً واسعاً. فبينما يرى مؤيدوه أنه أداة ضرورية للضغط على النظام لوقف انتهاكاته وتحقيق العدالة، ينتقده آخرون، بمن فيهم منظمات إنسانية وبعض الدول، لكونه يفاقم الأزمة الإنسانية في سوريا ويؤثر سلباً على حياة المدنيين، ويعرقل جهود الإغاثة وإعادة الإعمار. لقد أدت العقوبات إلى تدهور حاد في الاقتصاد السوري، وارتفاع معدلات الفقر، ونقص في السلع الأساسية، مما زاد من معاناة شعب أنهكته سنوات الحرب.
تجديد التعليق: دلالات التحول في السياسة الأمريكية
إن قرار الإدارة الأمريكية بتجديد تعليق بعض عقوبات قيصر ليس جديداً تماماً، فقد سبق وأن اتخذت خطوات مماثلة في أوقات سابقة، خاصة بعد الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا في فبراير 2023. لكن تجديد التعليق في هذا التوقيت يحمل دلالات أعمق تتجاوز مجرد الاستجابة للكوارث الطبيعية. يشمل التعليق، الذي تصدره وزارة الخزانة الأمريكية ممثلة بمكتب مراقبة الأصول الأجنبية (OFAC)، تراخيص عامة تسمح بالتعاملات المتعلقة بالمساعدات الإنسانية والأنشطة الداعمة للتعافي المبكر، مثل مشاريع المياه والصرف الصحي والكهرباء والتعليم والرعاية الصحية، دون التعرض لعقوبات.
هذا القرار يعكس، على ما يبدو، إدراكاً متزايداً في واشنطن بأن سياسة العقوبات الشاملة لم تحقق أهدافها السياسية المرجوة، بل ربما فاقمت الأوضاع الإنسانية دون أن تدفع النظام السوري نحو تغيير سلوكه. إنه اعتراف ضمني بأن الضغط الأقصى لم يكسر شوكة النظام، بل ربما دفعه أكثر نحو حلفائه (روسيا وإيران) وزاد من عزلة الشعب السوري. كما أنه يأتي في سياق مطالبات دولية متزايدة بتخفيف العقوبات لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، خاصة مع تدهور الأوضاع المعيشية لملايين السوريين.
إن تجديد التعليق لا يعني رفع العقوبات بشكل كامل، ولا يغير من الموقف الأمريكي الأساسي الرافض لتطبيع العلاقات مع النظام السوري قبل تحقيق انتقال سياسي. ومع ذلك، فهو يمثل خطوة نحو فصل المسار الإنساني عن المسار السياسي، ويمنح المنظمات الدولية وغير الحكومية مساحة أكبر للعمل في سوريا دون خوف من الوقوع تحت طائلة العقوبات.
من العزلة إلى البراغماتية: قراءة في الموقف الأمريكي الجديد
يمكن قراءة هذا التحول الأمريكي على أنه انتقال من سياسة العزلة الشاملة إلى مقاربة أكثر براغماتية، وإن كانت محدودة. هناك عدة عوامل قد تفسر هذا التغيير:
-
الضغط الإنساني: تدهور الأوضاع الإنسانية في سوريا وصل إلى مستويات غير مسبوقة، حيث يعتمد ملايين الأشخاص على المساعدات. الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية دعت مراراً إلى تخفيف العقوبات لتسهيل عملها. الإدارة الأمريكية قد تكون استجابت لهذا الضغط لتجنب اتهامات بتفاقم الأزمة الإنسانية.
-
فشل سياسة الضغط الأقصى: بعد سنوات من تطبيق قانون قيصر، لم يطرأ أي تغيير جوهري على سلوك النظام السوري أو موقفه من الحل السياسي. يبدو أن واشنطن تدرك أن هذه السياسة لم تحقق هدفها في إحداث تغيير سياسي، وأن استمرارها بنفس الوتيرة قد يكون غير فعال.
-
الديناميكيات الإقليمية: شهدت المنطقة العربية تحولات كبيرة في السنوات الأخيرة، أبرزها عودة بعض الدول العربية للتطبيع مع النظام السوري وإعادته إلى جامعة الدول العربية. دول مثل الإمارات والسعودية والأردن تسعى لإيجاد حلول إقليمية للملف السوري، وتخفيف العقوبات الأمريكية قد يمنحها مساحة أكبر للمضي قدماً في هذا الاتجاه، حتى لو كان ذلك على مضض من جانب واشنطن. الإدارة الأمريكية قد تكون تحاول التكيف مع هذا الواقع الإقليمي الجديد بدلاً من معارضته بشكل مطلق.
-
تحديات دولية أخرى: تواجه الولايات المتحدة تحديات جيوسياسية كبرى في مناطق أخرى من العالم، مثل أوكرانيا وشرق آسيا. قد يؤدي ذلك إلى رغبة في تقليل الانخراط المباشر في سوريا والتركيز على قضايا أخرى، مع الحفاظ على حد أدنى من الاستقرار وتخفيف المعاناة الإنسانية.
هذا التحول لا يعني بالضرورة شرعنة النظام السوري، ولكنه يمثل محاولة لإيجاد توازن بين الأهداف السياسية المعلنة والواقع العملي على الأرض، خاصة فيما يتعلق بالجانب الإنساني.
تداعيات القرار على المشهد السوري والإقليمي
سيكون لتجديد تعليق عقوبات قيصر تداعيات محتملة على عدة مستويات:
-
على الصعيد الإنساني: من المتوقع أن يسهل القرار عمل المنظمات الإنسانية ويوفر بعض المرونة في تقديم المساعدات وإطلاق مشاريع التعافي المبكر. قد يؤدي ذلك إلى تحسن طفيف في الظروف المعيشية لبعض السوريين، خاصة في مجالات الخدمات الأساسية. ومع ذلك، فإن حجم الأزمة الإنسانية في سوريا هائل، والتعليق الجزئي للعقوبات لن يكون كافياً لحلها بالكامل.
-
على الاقتصاد السوري: بينما قد يوفر القرار بعض المتنفس للأنشطة الاقتصادية الصغيرة المرتبطة بالتعافي المبكر، فإنه من غير المرجح أن يؤدي إلى انتعاش اقتصادي شامل. العقوبات الرئيسية التي تستهدف النظام والقطاعات الحيوية ستبقى سارية، مما سيستمر في ردع الاستثمارات الكبيرة وجهود إعادة الإعمار واسعة النطاق. الشركات والبنوك الدولية ستظل حذرة للغاية من التعامل مع سوريا بسبب المخاطر المتبقية.
-
على النظام السوري: قد يرى النظام في هذا القرار إشارة إلى تراجع الضغط الأمريكي، مما قد يشجعه على التمسك بمواقفه وعدم تقديم تنازلات سياسية. ومع ذلك، فإن التعليق لا يمنح النظام أي اعتراف سياسي، ولا يفتح الأبواب أمامه على مصراعيها للتعامل مع المجتمع الدولي.
-
على الدور الإقليمي: قد يعزز القرار توجه الدول العربية نحو مزيد من الانخراط مع دمشق. الدول التي تسعى لإعادة اللاجئين السوريين أو لإعادة ربط سوريا بالمنظومة العربية قد تجد في هذا القرار ضوءاً أخضر، وإن كان خافتاً، للمضي قدماً في مبادراتها. هذا قد يؤدي إلى مزيد من التنسيق الإقليمي حول الملف السوري، وربما يقلل من النفوذ الإيراني تدريجياً في حال استطاعت الدول العربية تقديم بدائل اقتصادية ودبلوماسية.
-
على الصعيد الدولي: قد يدفع القرار دولاً أخرى، مثل دول الاتحاد الأوروبي، إلى إعادة تقييم سياساتها تجاه سوريا. فبينما تفرض هذه الدول عقوبات خاصة بها على النظام السوري، فإن تخفيف الضغط الأمريكي قد يفتح الباب أمام نقاشات داخلية حول كيفية الموازنة بين الأهداف السياسية والإنسانية.
تحديات وآفاق: هل يمهد القرار لمرحلة جديدة؟
على الرغم من أهمية تجديد تعليق عقوبات قيصر من الناحية الإنسانية، إلا أنه لا يحل المعضلة السورية الأساسية. فالمسار السياسي المتوقف، وغياب الأفق لحل شامل وفقاً لقرار 2254، يظلان التحدي الأكبر. العقوبات المتبقية، إضافة إلى حالة عدم اليقين السياسي والأمني، ستستمر في عرقلة أي جهود حقيقية لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
إن هذا القرار يمثل خطوة تكتيكية قد تهدف إلى إدارة الأزمة بدلاً من حلها. فواشنطن لا تزال ملتزمة بموقفها بأن التطبيع الكامل مع النظام السوري لن يتم إلا بعد تحقيق انتقال سياسي ذي مصداقية. ومع ذلك، فإن هذا التحول الجزئي في السياسة الأمريكية قد يفتح آفاقاً جديدة للنقاش والتعاون، وإن كان محدوداً، بين الأطراف الدولية والإقليمية حول كيفية المضي قدماً في الملف السوري.
قد يمهد القرار لمرحلة يتم فيها التركيز بشكل أكبر على "التعافي المبكر" و"المرونة" داخل سوريا، بدلاً من الانتظار اللامتناهي لحل سياسي شامل. هذا النهج قد يكون أكثر واقعية في ظل الانسداد السياسي، ولكنه يحمل في طياته مخاطر إضفاء الشرعية على الوضع الراهن وتأجيل الحلول الجذرية. في النهاية، يبقى مصير سوريا معلقاً بين ثقل العقوبات، وضغط الأزمة الإنسانية، وتضارب المصالح الإقليمية والدولية، مع بصيص أمل خافت بأن هذا التغيير الطفيف في السياسة الأمريكية قد يفتح نافذة صغيرة لإغاثة شعب أنهك
0 تعليقات