صورة من Pexels — المصدر
الاقتصاد السلوكي وصناعة السياسات: تصميم عالم أفضل للإنسان
لطالما اعتمدت النماذج الاقتصادية التقليدية على افتراض أساسي: أن البشر كائنات عقلانية تتخذ قراراتها بناءً على المنطق البحت، وتسعى دائمًا لتعظيم مصالحها. في هذا العالم المثالي، يتوفر لدى الأفراد معلومات كاملة، ويقومون بتحليلها بدقة ليتوصلوا إلى الخيار الأمثل. لكن الواقع، كما نعلم جميعًا، غالبًا ما يختلف عن هذه الصورة المثالية. فالبشر مدفوعون بالعواطف، والتحيزات، والعادات، والظروف المحيطة، مما يجعل قراراتهم بعيدة كل البعد عن العقلانية الصارمة. هنا تحديدًا يبرز دور "الاقتصاد السلوكي"، وهو مجال يجمع بين رؤى علم النفس ومبادئ الاقتصاد، ليقدم فهمًا أعمق لكيفية اتخاذ الناس لقراراتهم، وكيف يمكن توظيف هذا الفهم لتصميم سياسات عامة أكثر فعالية وإنسانية.
ما هو الاقتصاد السلوكي؟
الاقتصاد السلوكي هو فرع من فروع الاقتصاد يدرس تأثير العوامل النفسية، والاجتماعية، والعاطفية، والمعرفية على القرارات الاقتصادية للأفراد والمؤسسات، وتأثير هذه القرارات على أسعار السوق، والعوائد، وتخصيص الموارد. على عكس الاقتصاد التقليدي الذي يفترض "الإنسان الاقتصادي العقلاني" (Homo Economicus)، يقر الاقتصاد السلوكي بأن البشر يتمتعون بـ "عقلانية محدودة" (Bounded Rationality). هذا يعني أن قدرتنا على معالجة المعلومات، واتخاذ القرارات، وتوقع المستقبل ليست كاملة أو مثالية.
يكشف الاقتصاد السلوكي أن قراراتنا تتأثر بمجموعة من "التحيزات المعرفية" (Cognitive Biases) و"الاستدلالات" (Heuristics) – وهي اختصارات عقلية نستخدمها لتبسيط عملية اتخاذ القرار. هذه التحيزات قد تقودنا إلى أخطاء منهجية ومتوقعة في الحكم والتصرف، وهي الأخطاء التي يمكن للسياسيين وصناع القرار الاستفادة منها لتوجيه السلوك البشري نحو نتائج أفضل، دون تقييد حريتهم في الاختيار.
التحيزات السلوكية الشائعة وتأثيرها
لفهم كيف يمكن للاقتصاد السلوكي أن يشكل السياسات، من الضروري التعرف على بعض التحيزات السلوكية الأكثر شيوعًا:
- التأطير (Framing): الطريقة التي يتم بها تقديم المعلومات تؤثر بشكل كبير على كيفية إدراكنا لها والقرارات التي نتخذها بناءً عليها. على سبيل المثال، قول "90% نسبة نجاح" له تأثير نفسي مختلف عن قول "10% نسبة فشل"، حتى لو كان المعنى الموضوعي واحدًا.
- النفور من الخسارة (Loss Aversion): يميل الناس إلى الشعور بألم الخسارة بشكل أقوى بكثير من شعورهم بالمتعة الناتجة عن مكسب مماثل. هذا يجعلهم أكثر ميلًا لتجنب المخاطر عندما يتعلق الأمر بالخسائر المحتملة، وأكثر عرضة للمخاطرة عندما يكونون في وضع الخسارة.
- التحيز للوضع الراهن (Status Quo Bias): يفضل الناس بشكل عام الحفاظ على الوضع الحالي وتجنب التغيير، حتى لو كان التغيير قد يكون مفيدًا لهم. هذا التحيز يفسر لماذا يتردد الكثيرون في تبديل مزود الخدمة، أو تغيير خطة التأمين، أو حتى تجربة منتج جديد.
- الاندفاع نحو الخيار الافتراضي (Default Effect): عندما يُقدم للأفراد خيار افتراضي محدد مسبقًا، فإنهم غالبًا ما يلتزمون به بدلًا من اختيار بديل آخر، حتى لو كان البديل أفضل. هذا التحيز قوي جدًا ويمكن استغلاله بشكل إيجابي في العديد من السياسات.
- التحيز التأكيدي (Confirmation Bias): يميل الناس إلى البحث عن المعلومات وتفسيرها بطريقة تؤكد معتقداتهم الحالية، وتجاهل أو التقليل من شأن المعلومات التي تتعارض معها. هذا يؤثر على كيفية استجابتهم للحملات التوعوية أو المعلومات الجديدة.
- التأثير الاجتماعي (Social Influence): يتأثر الأفراد بشدة بسلوك الآخرين من حولهم. معرفة ما يفعله معظم الناس يمكن أن يدفع الفرد إلى محاكاتهم، سواء كان ذلك في استهلاك الطاقة، أو دفع الضرائب، أو التبرع للجمعيات الخيرية.
كيف يغير الاقتصاد السلوكي صنع السياسات؟
يقدم الاقتصاد السلوكي لصناع السياسات مجموعة أدوات جديدة للتأثير على السلوك البشري دون الحاجة إلى فرض قوانين صارمة أو تقديم حوافز مالية ضخمة. الفكرة الأساسية هي "الوخزات" أو "الدفعات اللطيفة" (Nudges)، وهو مفهوم نشره عالما الاقتصاد السلوكي ريتشارد ثالر وكاس سنشتاين. الوخزة هي أي تدخل صغير يغير سلوك الناس بطريقة متوقعة دون حظر أي خيارات أو تغيير حوافزهم الاقتصادية بشكل كبير. إنها تهدف إلى توجيه الناس نحو قرارات أفضل لأنفسهم وللمجتمع، مع الحفاظ على حريتهم في الاختيار.
بدلًا من تصميم سياسات تفترض أن الناس سيتصرفون بعقلانية، يصمم الاقتصاد السلوكي سياسات تأخذ في الاعتبار أن الناس كائنات بشرية معقدة، وأنهم قد يحتاجون إلى "دفعة" صغيرة لاتخاذ الخيار الأفضل. هذا يعني الانتقال من سياسات "افعل كذا وإلا عوقبت" أو "افعل كذا وستكافأ" إلى سياسات "صُمم البيئة بحيث يكون الخيار الأفضل هو الأسهل أو الأكثر وضوحًا".
أمثلة عملية لتطبيق الاقتصاد السلوكي في السياسات العامة
لقد أثبت الاقتصاد السلوكي فعاليته في مجموعة واسعة من المجالات حول العالم:
- الادخار والمعاشات التقاعدية: أحد أبرز الأمثلة هو استخدام الخيار الافتراضي (Default Option) في برامج الادخار للتقاعد. بدلًا من مطالبة الموظفين بالتسجيل يدويًا في خطة التقاعد (مما يتطلب جهدًا وقد يؤدي إلى التحيز للوضع الراهن)، قامت العديد من الحكومات والشركات بتحويل التسجيل إلى خيار افتراضي، بحيث يتم تسجيل الموظفين تلقائيًا ما لم يختاروا الانسحاب. وقد أدى هذا إلى زيادة كبيرة في معدلات الادخار.
- الصحة العامة:
- التبرع بالأعضاء: في العديد من الدول، يتم تطبيق نظام "الموافقة المفترضة" (Presumed Consent) للتبرع بالأعضاء، حيث يُفترض أن الشخص موافق على التبرع بأعضائه بعد الوفاة ما لم يعترض صراحة. هذا يزيد بشكل كبير من عدد المتبرعين مقارنة بالأنظمة التي تتطلب موافقة صريحة.
- الأكل الصحي: يمكن استخدام التأطير لتشجيع الخيارات الصحية. على سبيل المثال، عرض الفواكه والخضروات في مستوى العين في المتاجر أو في قوائم الطعام، أو تسمية الوجبات الصحية بأسماء جذابة بدلًا من مجرد "خضروات مسلوقة".
- التطعيمات: إرسال رسائل تذكير نصية أو بريد إلكتروني للأشخاص بمواعيد تطعيمهم أو تطعيم أطفالهم، مع التأكيد على أن "معظم الناس في منطقتك يقومون بالتطعيم"، يمكن أن يزيد من معدلات الامتثال.
- الضرائب والالتزام المالي:
- تبسيط النماذج الضريبية: جعل نماذج الإقرار الضريبي أبسط وأكثر وضوحًا يقلل من العبء المعرفي ويشجع على الالتزام.
- رسائل تذكير مخصصة: إرسال رسائل تذكير للمتأخرين في دفع الضرائب، مع الإشارة إلى أن "معظم جيرانك قد دفعوا ضرائبهم في الموعد المحدد"، يمكن أن يحفزهم على الدفع بسبب التأثير الاجتماعي.
- البيئة والحفاظ على الطاقة:
- التغذية الراجعة (Feedback): تزويد الأسر بتقارير دورية تقارن استهلاكهم للطاقة بمتوسط استهلاك الجيران، مع إبراز توفير الطاقة المحتمل، يشجع على تقليل الاستهلاك.
- الخيار الافتراضي الأخضر: جعل خيارات الطاقة المتجددة هي الخيار الافتراضي عند الاشتراك في خدمات الكهرباء.
- التعليم:
- رسائل تحفيزية للطلاب: إرسال رسائل نصية قصيرة للطلاب لتذكيرهم بمواعيد الامتحانات أو لتقديم الدعم المعنوي، يمكن أن يحسن الأداء الأكاديمي.
- تصميم بيئات التعلم: ترتيب الفصول الدراسية والمكتبات بطرق تقلل من التشتت وتزيد من التركيز.
التحديات والاعتبارات الأخلاقية
على الرغم من الإمكانات الهائلة للاقتصاد السلوكي، إلا أن هناك تحديات واعتبارات أخلاقية يجب أخذها في الحسبان:
- التلاعب مقابل المساعدة: الخط الفاصل بين توجيه الناس نحو خيارات أفضل وبين التلاعب بهم قد يكون رفيعًا. يجب أن تكون الوخزات شفافة وتهدف إلى مصلحة الفرد والمجتمع، وليس إلى تحقيق أجندات خفية.
- الحرية في الاختيار: يجب أن تحافظ الوخزات على حرية الأفراد في الاختيار، وألا تفرض عليهم سلوكًا معينًا.
- التعميم: ما ينجح في سياق ثقافي أو اجتماعي معين قد لا ينجح في سياق آخر. يجب إجراء تجارب دقيقة ومحلية قبل تطبيق السياسات على نطاق واسع.
- النتائج غير المقصودة: قد تؤدي بعض الوخزات إلى نتائج غير متوقعة أو سلبية إذا لم يتم تصميمها بعناية.
- المساءلة: من يتحمل المسؤولية عندما تفشل سياسة قائمة على الاقتصاد السلوكي؟
يجب على صناع السياسات أن يكونوا واعين لهذه التحديات، وأن يتبنوا نهجًا تجريبيًا يركز على التقييم المستمر والتكيف.
خاتمة
لقد غير الاقتصاد السلوكي الطريقة التي ينظر بها صناع السياسات إلى السلوك البشري. فبدلًا من محاولة جعل الناس "أكثر عقلانية"، فإنه يعترف بأنهم بشر، ويقدم أدوات عملية لتصميم بيئات اتخاذ القرار التي تجعل الخيارات الأفضل هي الخيارات الأسهل، أو الأكثر جاذبية، أو الأكثر وضوحًا. من خلال فهم أعمق للتحيزات المعرفية والعوامل النفسية التي تؤثر على قراراتنا، يمكن للحكومات والمنظمات تصميم سياسات أكثر فعالية في مجالات الصحة، والتعليم، والادخار، والبيئة، وغيرها. إن دمج الاقتصاد السلوكي في عملية صنع السياسات ليس مجرد اتجاه عابر، بل هو تحول جوهري نحو حوكمة أكثر ذكاءً وإنسانية، تسعى لبناء مجتمعات أفضل من خلال فهم عميق للطبيعة البشرية.
0 تعليقات